[ مقطع بعنوان "مصطفى الأرمني" من رواية "مذكّرات إمرأة شيعيّة" لرجاء نعمة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر]
واقعة 1948،
من ميناء حيفا في فلسطين انطلقت سفينة هاربة باتجاه الساحل اللبناني، حاملة معها فارين من مجازر الصهاينة، ومن بين هؤلاء خوسروف الأرمني وعائلته. كان الجيل السابق من هذه قد فر من أرمينيا إلى "بلاد الشام" هرباً من المذابح التي ذاع صيتها آنذاك في أصقاع الأرض. الآن ومذابح أخرى قد بدأت في وطنهم البديل، ستكون مخاوف هؤلاء مختلفة عن مخاوف الآخرين. وتوقعاتهم أيضاً. سيصدق خوسروف ما يرفض تصديقه الفلسطينيون: هذا التهجير القسري لن يكون مؤقتاً كما قيل لهم. قد يطول! العمر كله. التجارب السابقة تحرمه من نعمة التفاؤل وتلوّح له بتكرار المصير!
في هذا الدرب البحري إلى بيروت وفي تلك الظروف غير المتوقعة، كان قد ركب في السفينة مع من ركب طفل في الثالثة من عمره، لم يلتفت أحد لوجوده، لا إهمالاً بل انشغالاً بما يجري. أو ظنا أن الاهتمام به من شأن الآخرين. كان الطفل يجلس إلى جوار العائلة الأرمنية. خيل لتلك أنه ابن أحد الركاب كما خيل لهؤلاء أنه ابن العائلة الأرمنية. كان أفراد هذه، على الرغم من الهلع، يحافظون على سلوك شديد الأدب. والطفل أكثر من أي فرد من هذه الأسرة بدا للآخرين مؤدباً! لهول الصدمة تكوم في مكانه ولاذ بالصمت. يصغي دون أن يصغي بالفعل للحكايات الغريبة التي يسمعها من حوله. يحاول أن يفهم مغزى أن يصعد إلى المركب الذي يبحر فيه مع هؤلاء الغرباء! هو الذي لم يسبق له ولا لأي أحد من أسرته أن ركب مركباً؟!
يتساءل ما الذي جعله يجلس قرب هؤلاء الناس الذين يحكون لغة غريبة عليه! من الإجابات لا يتراءى له سوى المشهد الرهيب الذي كان منذ ساعات شاهداً عليه. هكذا ولفرط الذعر والإنهاك غط الصغير في النوم والمشهد الفظيع رفيق خياله.
ما يبدو للطفل شديد الغموض بدا لرب الأسرة الأرمنية "خوسروف" واضحاً كعين الشمس! إنما لا يجرؤ على البوح به لهؤلاء المساكين، جديدي العهد بالمذابح والتهجير:
من قُتل قد قُتل!
ومن هرب فمصيره التشرد.
ما خلفه هو، وهؤلاء وراءهم، من ستوديو تصوير وبيوت،
مزارع وبساتين أو دكاكين...سيحتله اليهود.
وهذه المرأة التي يخيل لها، أنها حين سترجع، ستخرج ما خبأت تحت البلاطة...لن تفعل. ما خبأته سيغدو نسياً منسياً شأن ما حرص الأرمن على إخفائه قبل أن يغادروا أراضيهم إلى غير رجعة.
أما زرع الحديقة الذي حرص هذا العجوز المسكين على ريه كي لا يصيبه اليباس...فلا أحد يعلم من سيستمتع بثماره!
وهو، خوسروف، على الرغم من تعاطفه مع زوجة الرجل إلا أنه يشعر بضيق إزاءها أشبه بالكره. يضيق بسذاجة الحكاية التي تكررها: اطمأنت على الدجاجات والبط وديك الحبش وزوج الخرفان. تركت لهم طعاماً "يكفي أسبوعا أو حتى عشرة أيام"!
اطمأنت!
ولدهشته، وجد خوسروف نفسه يجهش في البكاء! هو الذي يوم وفاة والدته لم يبك! زوجته تحاول أن تهدئ خاطره وتعطيه منديل...في ذات اللحظة التي وقع بصرها على صبي نائم، طويل الأطراف، نحيل أسمر البشرة!
خوسروف يعجز عن كتم انفعاله فيما يسترجع في خياله
ذاك المشهد: الهاربون يركضون، تسبقهم كلاب الأحياء التي بدت أشد هلعاً من أصحابها لهذا الفراق المباغت. كلاب كثيرة سبقت الفارين إلى المرفأ أو الساحات ولم تتمكن من ركوب الحافلات والسفن التي أقلت البشر.
وحدها الكلاب ستبقى!
"خوسروف" لا يبوح بأفكاره لزوجته.
وهذه بعد أن تماسك زوجها عادت إلى صمتها، تفرك كفاً بآخر تتململ في الزاوية التي تركن فيها وأسرتها. كان الزوجان في مثل عمر هذا الطفل حين تمكن ذووهم من الفرار من مذابح "نهر أراكس" الذي يحكى أن ضفافه ظلت فترة طويلة مبللة بدماء المذبوحين. مثيل المشهد الذي كان الطفل عبدالله شاهداً عليه. حين أفاق من النوم لم يلتفت ليقظته أحد، مثلماً لم يتنبه أحد لنومه. عبدالله يستمع إلى الحكايات الغريبة التي يتناقلها الناس من حوله، يحدق بالبحر والشمس ووجوه الركاب موقناً بأن كارثة تحدث لهم جميعاً. لا أحد تنبه له سوى زوجة خوسروف التي تصادف جلوسه بجانبها. بعد ساعات، خطر لها احتمال أن يكون الطفل "وحيد"، فبادرت إلى السؤال:
" لمن هذا الولد"؟!
تسأل الآخرين كما نفسها!
ولما لم تلق جواباً من أحد، ألقت السؤال على الصبي
نفسه. سألته عن اسمه وأهله...فلم تلق منه سوى
نظرات حائرة وصمت. ولولا استجاباته لظنته أخرسا أو أخرقا!
عبدالله، يحاول أن يتذكر. يجيل بصره إلى هذه الناحية
وتلك وتعبير الهلع الذي يلازم تقاسيمه ينطق بما رآه منذ ساعات:
صف من رجال يقفون إلى الحائط. وحاملو رشاشات من الناحية الأخرى يطلقون عليهم الرصاص. الرجال يسقطون على الأرض والدماء تسيل ومن بين هؤلاء عمه مصطفى!
السيدة الغريبة تلح عليه بالأسئلة. مرة بلغة فهمها وأخرى بلغة لم يفهما. أخيراً ولكثرة ما ألحت عليه خرج عبدالله عن صمته ونطق باسم عمه "مصطفى".
نعم، وجد نفسه ينطق بالاسم!
كان يتمنى أن يحكي عن المشهد. عمه يقع على الأرض الدم نزف من جوانبه. الرجال جميعا سقطوا وينزفون والساحة تحولت إلى بركة دم. يتمنى أن يحكي فالمشهد حاضر تماماً في ذهنه إنما يعوزه الكلام. فقط الاسم يحضره. هكذا صار كلما سئل عن اسمه أو عن أي شيئ يتعلق بأصوله أجاب " مصطفى".
"قد تكون أسرة الطفل في المراكب التي ستلحق بهم"، فكر البعض. أو في المركب الذي سبقهم بقليل، فكرت السيدة. ولولا سرعة ذاك للحقوا به وسألوا ركابه إن كان أحد منهم أضاع طفلاً يدعى مصطفى"؟!
رجاء واحد يهتف به قلب هذه المرأة: أن لا تكون الأسرة تلك في المركب الذي يقال إنه قد غرق بركابه!
فليسألوا قائد المركب. وهذا ألقى على الصبي الأسئلة التي سبق له سماعها:
"اسم أبوك يا شاطر؟"
اسم أمك؟
اخواتك؟
جدك...عمك؟
"مصطفى."
حين وصل المركب، كانت أعداد الجموع المنتظرة في
مرفأ بيروت تتجاوز أعداد المهاجرين إليها. ولما بدأ الركاب يتهافتون على النزول لزمت عائلة خوسروف مكانها. ما زالت المرأة تأمل في أن يتقدم
أحد من الطفل ويأخذه.
لم يتقدم أحد!
ووجدت نفسها تفعل. تمسك بيد الطفل وتنزل وعيناها تبحثان عن أحد يبحث بدوره عن ابن له يدعى مصطفى.
ولما لم يتقدم أحد لجأت الأسرة الأرمنية إلى القبطان الذي أجاب: "لا بد من تسليم الطفل إل المخفر". ورجا العائلة أن تفعل.
في المخفر طلبوا من خوسروف إبقاء الطفل مؤقتاً لديه لحين العثور على ذويه. لم يخطر له أن "هذا المؤقت" سيدوم عمرا بأكمله. فالظروف التي تتلاعب بمصائر الناس، لا سيما "المهجرين" منهم تدخلت هذه المرة ليبقى الصبي مع الأم الغريبة التي عثرت عليه.
وهذه ترجوه أن يتذكر.
أي شيء!
رجاء صار يقابل من الطفل المسكين بالصمت والضيق. فمن شأن ما شاهد أن ينسيه، لا اللغة التي سبق وتكلم، بل وينسيه نفسه. وعندما تابعت الأسرة مسيرتها إلى حلب كان عبدالله قد نسي جميع مفردات اللغة التي تشربها منذ نعومة اظافره. كلها غارت في منطقة سوداء من ذهنه. سوداء وموصدة على كل منافذ الذاكرة. هكذا التحق بالأسرة التي ساقته الظروف إليها وبدأ يتعلم لغة أخرى ويبني شخصية جديدة باسم عمه مصطفى.
مرت شهور طويلة قبل أن يخبر الطفل أمه بالتبني بالذكرى الوحيدة التي تلوح في خاطره: مثل طيف، يتراءى له رجل يمسك بيده ويصعده المركب.
"كيف هو" ؟
رجل طويل. طويل جداً أصعده المركب. قال له" يا شاطر خليك مع الناس بالمركب". في ما عدا ذلك لا يذكر شيئاً. سوى عمو خوسروف واقفأ في طرف السفينة يسأل إن كان أحد من الحاضرين يعرف هذا الطفل ؟!
ويشير إليه!
حين كبر عبدالله وبدأ يبلور افكاره تمكن من القول بالأرمنية أن اللحظة الرهيبة هي التي وقف فيها عمه خوسروف يسأل الحاضرين عما إذا كان أحدهم يعرف شيئاً عن هذا الولد "الضائع"؟ ورغم حبه عمه خوسروف كان كلما تذكر وقفته وإشارته كرهه. خاصة وأن الحاضرين، صاروا بدورهم يتساءلون عن هوية ذاك الولد "الضائع".
ولد ضائع...يرددون. ولد ضائع.
**
منذ أن يئست من التعرف على أهله، تأكد لزوجة خوسروف أن الطفل ضائع حقاً وأن مصيره سيغدوا كمصير أطفال كثيرين من الأرمن، يحكى أنهم في حمى الفوضى والذعر فُقدوا إلى غير رجعة. وداهمها إحساس غريب بأنها معنية به فقررت أن لا تتركه إلا إذا عثرت على ذويه وسلمته لهم يداً بيد. ستبدأ البحث حال أن يستقروا في مكان...
هكذا...في الفترة التي كانت العائلة الفلسطينية في "صور" تبحث عن ولدها، كانت الأسرة الأرمنية في بيروت تبحث عن ذوي طفل يدعى مصطفى فرقته ظروف التهجير عن أهله. وقد خطر لأسرة خوسروف أن ترسل من يدور في المخيمات بحثاً عن ذوي الطفل. على أن ظروف االتهجير التي اضطرتها للسفر إلى حلب عرقلت مسعى الخير الذي بدأته. ولما عادت ثانية إلى لبنان، ما إن سمعت بإحصاء "اللاجئين"، كانت فكرة البحث قد وهنت وصار يخامر الأم شعور بأن مثل هذا البحث المتأخر يتضمن تخل صعب عن هذا الصبي الذي بدأ يتعلق بها وتتعلق به.
بدأ إحصاء من سموا "باللاجئين" الفلسطينيين وقررت الأسرة الكريمة تسجيل "مصطفى" باسمها. الأمر سيدهش
المكلفين بالتسجيل دهشة ما بعدها دهشة!
كيف يكون الصبي أرمنيا ومصطفى في آن معاً؟!
الجواب حاضر لدى الأم. الطفل "منذور" أجابت. "نذر" أخذته على نفسها. كان على شفير الموت، فدعت ربها إن هو "سمح لها به"، أن تسميه "مصطفى".
ارتضت العائلة الأرمنية بمسؤوليتها. أحبت الطفل وصارت ترعاه رعايتها أولادها دون أن تخفي عنه حقيقة أصوله.كانت حين تُسأل تحكي القصة بحذافيرها لعلها، من الأفواه للآذان، تصل لأصحابها ويكتشف الفاقدون طفلهم. كان ذلك قبل أن يذهب الصبي إلى المدرسة التي ينبغي عليه ارتيادها.
حسب الأخلاقيات، وجدت أسرته الجديدة أن طفلاً يدعى مصطفى لا بد وأن ينشأ على دين ذويه. هكذا، في بيروت،أخذته أمه بالتبني إلى مدرسة حكومية لعله، يتعلم كما كل تلميذ فيها، أصول ديانته. هكذا اقتسم البسطاء رعاية الصغير. رعاية ستبني له هوية جديدة جعلت منه مسلماً مسيحياً في آن معاً. عربياً أرمنياً من فلسطين.
عبدالله، لا يتذكر بالتحديد متى، لأول مرّة، سمع بحكايته. ما يعرفه أنها بدأت مع الهجرة. مذاك وهو يسمع بها متقطعة من أفواه الأسرة ومن أسئلة مَن حوله. لاحظ أن العائلة، بمرور الوقت صارت تداري شعوره وكفت عن تكرار الحكاية التي تزعجه بلا فائدة، بقدر ما تثير فضول السامعين.
يعرف بالعقل أنها حكايته إنما لا يصدقها.
كأنها تخص طفلاً آخر!
طفل قريب منه ويفرط في الشفقة عليه إنما لا يصدق أنه هو نفسه ذاك الطفل. حكاية ضياع ينفطر لها القلب حدثت لصغير آخر غدا رفيق حياته. كان يعبد أهله الأرمن ويتشارك وإياههم في كره إسرائيل. إنما يعرف، وأهله أيضاً، أن غضبه يتجاوز بكثير غضب الآخرين. ولما صار يسمع بالثأر من الصهاينة، تأكد له أنه هو، أكثر من أي شخص آخر، معنيّ بهذا الثأر.